ابن النفيس والعبور الرئوي

اقتبس هذه المقالة

عرض عام

في القرن الثالث عشر، كتب ابن النفيس تعليقات جوهرية على كل كتاب القانون في الطب لابن سينا يراجع بها فهوماً كانت قائمة لوظائف أعضاء الإنسان وتشريحه. وقد شكلت نظريته عن العبورالرئوي للدم ركناً هاماً في النظرية الحديثة عن دوران الدم.

سيطر علم وظائف الأعضاء والتشريح الجالينوسي على التقليد الطبي العربي من وقت حنين بن إسحاق (٨٠٩-٨٧٣م). حيث جددت القامات الطبية مثل الرازي (٨٦٥-حوالي ٩٢٥م) والمجوسي (المتوفى حوالي ٩٨٢-٩٩٤م) الممارسات الطبية وانتقدتها، ولكن قليلاً ما تحدت للمبادئ الأساسية لنظام جالينوس. وقد قام ابن سينا (٩٨٠-١٠٣٧م) في كتاب القانون في الطب بأول محاولة جادة لمقابلة طب جالينوس مع فهم معقول فلسفياً لطبيعة الجسم الحي وقد عدّل لدى قيامه بذلك جوانب معينة من علم وظائف الأعضاء. وهذا دفع ابن النفيس ليقلب الأساس الذي قام عليه طب جالينوس ويصلحه بكامله فأرسى الأسس التي من ثم قامت عليها نظرية ويليام هارفي (١٥٧٨-١٦٥٧م) عن الدورة الدموية.

وقد كانت إصلاحات ابن النفيس ناتجة عن عمليتين: (١) دراسة نظرية موسعة ومكثفة للطب والفيزياء وعلوم الدين من أجل تكوين فهم كامل عن طبيعة الجسم الحي وروحه؛ و (٢) محاولة للتأكد من صحة الادعاءات في ميدان وظائف الأعضاء من خلال المشاهدة بما في ذلك تشريح الحيوانات.

مسام القلب الخفية

زعم جالينوس أن الحاجز (الجدار العضلي الفاصل بين جانبي القلب) مسامي، ولكن بما أنه لم يتمكن من رؤية هذه المسام خلال التشريح فقد اقترح أنها صغيرة جداً وخافية. ووفّق ابن النفيس بين النظرية والمشاهدة التجريبية في مقترحه بأن الدم ينتقل من الجانب الأيمن من القلب إلى الجانب الأيسر عبر الرئتين. وهذا ما يعرف بالعبور الرئوي.

بداية وصف جالينوس لتشريح الأوردة من النسخة العربية من كتابه في التشريح للمتعلمين، Or 9202 ص. ١٢٢و
بداية وصف جالينوس لتشريح الأوردة من النسخة العربية من كتابه في التشريح للمتعلمين، Or 9202 ص. ١٢٢و

فمن وجهة نظر جالينوس فإن الأوردة مسؤولة عن توزيع الدم والأخلاط (أي التغذية) للجسم كله والشرايين مسؤولة عن توزيع الروح الحيوية. وتتولد هذه الروح في الجانب الأيسر من القلب من الهواء المُعَدّ المُستلَم من الرئتين. تتألف مجموعتي الأوعية نظامين منفصلين متميزين يتحكم في كل منهما عضو منفصل وكل منهما له روحه (أو جزء من روح) التي تقدم القوى اللازمة للعضو الذي تسكنه.

كانت الأوردة جزءاً من نظام التغذية المحكوم بالكبد الذي يتلقى قوة التغذية من الروح المغذية. وكان عمل الشرايين هو توزيع الروح والحرارة من القلب الذي يتلقى بدوره قواه من روح العاطفة. كما اعتقد جالينوس أن بعض الأجزاء قليلة الكثافة في الجسم لا يمكن أن تُغذى بدم الأوردة الكثيف. ولهذا اقترح وجود المسام الخفية في حاجز القلب لتسمح بامتزاج بعض الدم مع الهواء والروح الموجودة في الجانب الأيسر من القلب وتصفية الدم بما يكفي لتغذية هذه الأجزاء من الجسم.

الروح ليس لها أجزاء: الحاجز ليس به مسام

رفض ابن النفيس على أسس فلسفية الزعم بأن الروح (النفس) لها أجزاء. من الناحية الفيسيولوجية، اعتبر القلب مسؤولاً عن توليد (الروح) وتشغيل الحركة في الجسم. ثم زعم أنه لا يمكن للحاجز أن يشتمل على مسام خفية حيث إن الدم الكثيف الموجود بالأوردة سوف يفسد الأنسجة الدقيقة للروح واقترح أن الرئتين تأخذان الدم من الجانب الأيمن.

بداية كتاب شرح تشريح القانون لإبن النفيس. Or. 5596، ص. ١ظ
بداية كتاب شرح تشريح القانون لإبن النفيس. Or. 5596، ص. ١ظ

كان الدم في الرئتين يُصفى من خلال غشائين اثنين في الوعاء الذي جلب الدم إلى الرئتين من القلب. وسمّى ابن النفيس هذا الوعاء الدموي "الوريد الشرياني" ولكننا نسميه في وقتنا الحاضر الشريان الرئوي. يمر الدم المُصفى إلى المساحات المفتوحة في الرئتين، حيث يُمزج مع الهواء ثم يستوعبه "الشريان الوريدي" (الوريد الرئوي). وهذا المزيج الخفيف من الهواء والدم ولّد الروح في الجانب الأيسر من القلب، بينما يبقى الدم الأكثركثافة في الشريان الرئوي يغذي الرئتين.

كما أن هذه الفيسيولوجيا الحديثة والتشريح الجديد دفعا ابن النفيس لرفض اعتقاد جالينوس بأن النبض كان ناجماً عن قوة تسكن أغشية الشرايين والتي تجعل كل الشرايين تنقبض وتتمدد بالتزامن. بل زعم أن النبض نتيجة مباشرة لضربات القلب حتى أنه لاحظ انقباض الشرايين وتمددها في أوقات مختلفة اعتماداً على ابتعادها من القلب. وقد توصل وعلى وجه صحيح إلى أن الشرايين تنقبض عندما يتمدد القلب وتتمدد عندما ينقبض القلب.

العبور والدوران

وفقاً لابن النفيس فإن كامل الدم يُستخدم تماماً خلال رحلته عبر الجسم، وجزء بسيط فقط من الدم شارك في العبور الرئوي. ولكن الفيسيولوجيا الجديدة والتي دعمت هذه النظرية التشريحية غالباً ما تم تناولها في التعليقات اللاحقة العربية على كتاب القانون في الطب لابن سينا وكتاب ابن النفيس الموجز في علم الطب.

وبعض من هذه النصوص مثل كتاب شرح القانون لقطب الدين الشيرازي (١٢٣٦-١٣١١م) كان يقرؤها علماء التشريح في عصر النهضة بالترجمة اللاتينية. فقد استخدم ريلدو كولومبو (١٥١٩-١٥٥٩م) على سبيل المثال مشاهدات تشريحية ليدافع عن نظريات العبور الرئوي و أيضاً عن أن القلب هو المسبب لنبض الشرايين. وهاتان النظريتان كونتا بعد ذلك أساس نظرية هارفي المعاصرة عن الدورة الدموية.