عرض عام
خلال القرون الأربعة الأولى من العصر الإسلامي (القرون السادس - العاشر ميلادية)، تمت ترجمة تقريبًا جميع المراجع العلمية والفلسفية المتاحة إلى اللغة العربية، إلى جانب العديد من النصوص باللغات السريانية والفارسية وغيرها من اللغات.
كانت هذه المهمة شاقةً للغاية وتطلبت جهودًا جماعية واشتهرت باسم "حركة الترجمة". ولم تتوقف الترجمة بعد القرن العاشر، ولكن بحلول نهاية القرن العاشرتمت ترجمة أغلبية النصوص العلمية والفلسفية التي تسبق العصر الإسلامي.
بغداد والورق وحركة الترجمة
بدأت حركة الترجمة تأخذ طابعًا جَديًا خلال فترة حُكم المنصور، ثاني الخلفاء العباسيين (حَكم من ٧٥٤-٧٧٥ ميلادية). وقد تزامن ذلك مع حدثين آخرين عملا على إنعاش حركة الترجمة: نقل فن صناعة الورق إلى العالم الإسلامي بواسطة الحِرفيين الصينيين في ٧٥١ ميلادية، وتأسيس العاصمة الكبرى بغداد على يد المنصور في ٧٦٢.
وقد أدت هذه المدينة الجديدة الحيوية والمزدهرة لانفتاح الشرق على الغرب، وكان سكانها متعدد اللغات من جميع أنحاء العالم الإسلامي وما وراءه. وكان استخدام الورق -الذي تم إنتاجه لأول مرة في العالم الإسلامي- قد شجَّع على تجارة الكتب والآداب. وفي واقع الأمر فإن نفس التوجهات الثقافية التي نتجت عنها حركة الترجمة قد أدت أيضًا لازدهار إنتاج الكتب والقراءة وقد أُطلِق على ذلك "عقيدة الكُتُب" العربية.
جورجيس بن بختيشوع والبطريق
كان جورجيس بن بختيشوع والبطريق من أقدم المترجمين الذين انخرطوا في حركة الترجمة خلال حُكم المنصور. وكان جورجيس بن بختيشوع (بعد منتصف القرن السابع) طبيب البلاط الخاص بالمنصور وهو نسطوري مسيحي من بلاد فارس كان يتحدث الفارسية والسريانية؛ وكان البطريق من الملكيين وكان يتقن اللغة السريانية واليونانية. وكلاهما انتجا تراجم للنصوص العلمية للمنصور. وكان لديهما سمات مشتركة مع غيرهما من المترجمين. فكانت هناك أربع سمات مشتركة بين العديد من مترجمي تلك الحقبة: حيث كانوا يتقنون عدة لغات، ويتحدثون السريانية والفارسية واليونانية؛ وكانوا مسيحيين؛ وكانوا يحظون برعاية شخصية ثرية ذات نفوذ سياسي؛ وفي حالة جورجيس بن بختيشوع، كانوا يمارسوا العلوم أيضًا.
سلالات العلماء والمترجمين
هناك ميزة أخرى مشتركة بينهم وبين المترجمين الآخرين لذلك العصر وهي أن الدراسة العلمية والترجمة كانا بمثابة مهنة عائلية بالنسبة لهم. فقد كان جورجيس بن بختيشوع الأول في سلسلة أطباء البلاط للخلفاء على مدى ستة أجيال والذين استمروا نحو ثلاثة قرون، كما حذا ولد البطريق وهو ابن البطريق حذو والده كمترجم.
وبالمثل التحق بالمترجم والطبيب الشهير حنين بن إسحاق (توفى في ٨٧٣) في أداء أعمال الترجمة ابن أخيه حبيش وابنه إسحاق بن حنين (توفي في ٩١٠)، وقد تخصص في ترجمة النصوص الرياضية. كما أن عالم الرياضيات الوثني ثابت بن قرّة من حرّان (توفي في ٩٠١) بدأ سلالة من العلماء والمترجمين في أسرته والتي امتدت عبر أربعة أجيال. وكان ابنه عالم الرياضيات والفلكي والطبيب سنان بن ثابت (توفي في ٩٤٣)، وحفيده عالم الرياضيات والفلكي إبراهيم بن سنان (توفي في ٩٤٦)، وابن حفيده الطبيب والمترجم ثابت بن إبراهيم (توفي في ٩٨٠).
رعاية بنو موسى
اشتهر كلٌ من حنين بن إسحاق وثابت بن قرّة بدقتهما وأسلوبهما المتميز في الترجمة. وقدم الرجلان أعمال الترجمة الخاصة بهما تحت رعاية عائلة بنو موسى الثرية والمؤثرة. وبنو موسي هم ثلاثة أشقاء من أبناء موسى بن شاكر الذي اشتهر بقاطع الطريق في بداية حياته ثم أصبح فلكيًا وصديقًا للمأمون، سابع الخلفاء العباسيين. كان الأشقاء الثلاثة رياضيون وفلكيون ومهندسون بارزون، وكانوا أيضاً يدعمون عمليات الترجمة العلمية بدفع رواتب شهرية للمترجمين. وقد ذُكر أن أفضل المترجمين، مثل حنين بن إسحاق وثابت بن قرّة كانوا يحصلون على مبلغ ضخم للغاية وصل لخمسمائة دينار ذهب شهريًا تقديرًا لجهودهم.
تلقى هؤلاء المترجمون التدريب على أعلى المستويات وكانوا علماء يتقنون عدة لغات، ونقلوا مهاراتهم للأجيال اللاحقة. وكان رعاتهم يتمتعون بالثراء ولهم صلات وثيقة في المجتمع، وغالبًا ما كانوا يحظون بسلطات سياسية كبيرة. وقد كان هذا الجمع بين الكفاءة العلمية واللغوية والرعاية الرفيعة يضمن إنتاج كم هائل من التراجم التي تتميز بأقصى درجات الدقة والوضوح لأهم النصوص العلمية في العصور الجاهلية.