عرض عام
ولغرض خدمة الشراكة بين مؤسسة قطر والمكتبة البريطانية قام المؤلف برقمنة 62 أسطوانة شيلاك 78 لفة في الدقيقة من جلسات التسجيل التي تمت أثناء مؤتمر الموسيقى العربية الأول الذي أقيم في القاهرة عام 1932. على سبيل المثال، تذكر الملاحظات الخطية المرافقة للنصوص (انظر حسن وشريف) في أحد الإصدارات المبكرة للأسطوانات المدمجة أنه في ذلك الوقت أصدرت شركة الإنتاج البريطانية (His Masters Voice (HMV ما مجموعه 162 تسجيلاً. وكان أكثر الفنانين تسجيلاً هو مطرب المقام العراقي الشهير محمد القبانجي (1900\01-1989).
وتبدو أقراص الشيلاك مثل أسطوانات الفينيل الممتدة القديمة، ولكنها لا تحتوي إلا على ثلاث دقائق من وقت التشغيل وتعتبر شديدة الهشاشة. وكانت هذه الأسطوانات تنتج في الفترة من العشرينات إلى الستينات، ما يجعلها تمثل لمحة هامة للتسجيلات المبكرة للموسيقى العربية.
طرح الملك المصري فؤاد الأول الدعوة لانعقاد المؤتمر الذي استضافته الاكاديمية المصرية المحافظة للموسيقى الشرقية واستضافت فيه مجموعة صغيرة من العلماء الأوروبيين والمصريين في القاهرة في الفترة من 14 مارس إلى 3 أبريل 1932. وحضر المؤتمر علماء موسيقى وموسيقيين عرب وأجانب قدموا إليه من شمال أفريقيا والشام ومصر وتركيا وأوروبا. وبدت موسيقى شبه الجزيرة العربية وكأنها غير مهمة، ولكن كان الاستثناء الوحيد هو الموسيقيين القادمين من العراق الذي تعتبر موسيقاه وثيقة الصلة بموسيقى شبه الجزيرة.
علماء علم الموسيقى المقارن من برلين و"المستشرقون"
قام عالم موسيقى الشعوب علي جهاد راسي بتحليل وقائع هذا المؤتمر، ووصفه بأنه "علامة بارزة في تاريخ الموسيقى العالمية". كما ذكر الخطوط العريضة للمواقف المختلفة باعتبارها "خلاف أساسي بين المصريين والأوروبيين، وإلى حد ما بين الأوروبيين أنفسهم وبين المصريين أنفسهم." ومما يثير الاهتمام على وجه التحديد اتباع المصريين لمفهوم سيادة الموسيقى التقليدية الغربية في سبيلهم نحو تطوير موسيقى "شرقية" أو عربية. وربط راسي ذلك "بالسيادة الاستعمارية البريطانية على مصر من 1882 إلى 1922".
وصل من برلين مديرو متاحف وعلماء الموسيقى من المجموعة التي أطلق عليها مجموعة علم الموسيقى المقارن. وضمت المجموعة روبرت لاشمان من المكتبة الوطنية الألمانية، وإريش فون هورنبوستل مدير أرشيف الفونوجرام (أرشيف الصوت)، وكورت ساكس من متحف الآلات الموسيقية. وأثناء المؤتمر قام المؤلف الموسيقي ومهندس الصوت المجري بيلا بارتوك بتقديم الدعم لهم.
وبشكل عام، عبر علماء علم الموسيقى المقارن عن رأي مفاده لزوم النظر إلى كل نوع موسيقي وفقًا لنظامه الموسيقي. كما أشاروا إلى أهمية الموسيقى الشعبية إلى جانب الموسيقى الفنية العربية. ودفعتهم آراؤهم للاقتراب كثيرًا من منظور التخصص الحالي الذي يسمى علم موسيقى الشعوب.
وعبر الخبراء المصريون من معهد الموسيقى العربية عن رأي مغاير تمامًا، ومعهم بعض علماء اللغة من فرنسا وانجلترا، ومنهم على سبيل المثال المؤرخ البريطاني المعروف هنري جورج فارمر.
واستهدف هؤلاء العلماء تدوين الميكروتون العربي على سلم ربع تون متساوي. وبشكل عام نظروا إلى الموسيقى التقليدية الغربية وآلاتها باعتبارها التطور الأرفع في فن الموسيقى. ونتيجة لذلك نظروا إلى الموسيقى العربية باعتبارها في طور النمو.
يُذكر أن في مصر في الثلاثينات كان البيانو يعتبر ذروة التقدم الموسيقي، ومن ثم شهد المؤتمر جدالاً مطولاً حول استخدام البيانو أو عدم استخدامه... أما في الوقت الحالي فإنه لا يكاد يستخدم في الموسيقى العربية. ويعزى ذلك إلى عدم إمكانية التعبير عن الميكروتون الموجود في الموسيقى العربية عن طريق الأصوات البالغ عددها 12 في النظام الموسيقي الغربي. أما الآلات الخالية من الحواف مثل الكمان فبإمكانها عزف الميكروتون، ولذلك أصبحت هذه الآلة مستخدمة في الموسيقى العربية.
وعلى الرغم من اختلاف الآراء، ناقش الموفدون إلى مؤتمر القاهرة هذه القضايا في جو يسوده الود. وينبغي للمرء مراعاة أن المؤتمر عقد في وقت سبق وصول النازيين إلى السلطة في ألمانيا بعام واحد، وقبل نشوب الحرب العالمية الثانية بسبعة أعوام.
وفوق كل شيء، ناقش خبراء الموسيقى العرب والأوروبيين للمرة الأولى أهمية "الموسيقى العربية" ومنظورها.
محمد القبانجي - "نجم فوق العادة" من العراق
كان أكثر الفنانين تسجيلاً في هذا المؤتمر هو مطرب البستة المرموق ومؤدي المقام العراقي محمد القبانجي. اضطلع القبانجي بتحديث العرض عن طريق استبدال وإضافة آلات أخرى إلى فرقة الجالغي البغدادي. وعلق المستمعون على عروضه التي لا غبار عليها، كما علقوا على تأليفه مقامًا جديدًا وكتابته لكلمات أغاني جديدة. وبفضل تسجيلاته وأسلوبه المبتكر، أصبح النجم الوحيد لعصر الشيلاك: الشوارع المغبرة والموسيقى المثيرة في بغداد: موسيقى المقام العراقي وفرق الجالغي.
وعن طريقه تم لأول مرة في التاريخ تسجيل ونشر نوع المقام العراقي خارج العراق. وحتى الآن لا يزال المقام العراقي يعتبر النوع الموسيقي التقليدي الوحيد في العراق، كما قامت منظمة اليونسكو عام 2003 بإدراجه ضمن التراث الثقافي غير المادي للبشرية.
يصحب القبانجي في تسجيلاته مجموعة من العازفين من بغداد. وهم حسب قائمة ياهيسكيل كوجامان: يهودا شماس (طبل الدربكة)، وإبراهيم صالح (الدف)، ويوسف زعرور (القانون)، وعزوري هارون (العود)، وصالح شميل (الجوزة)، ويوسف بتو (السنطور). وجدير بالاهتمام أن التسجيلات اهتمت بإبراز كلا من المطرب والعازفين.
وكما نرى فإن العديد من المناقشات التي جرت في القاهرة لا تزال مهمة بالنسبة لنا. وبفضل القائمين على المؤتمر وشركة الإنتاج البريطانية HMV، لا يزال بإمكاننا الاستماع إلى المخزون الموسيقي الذي جرى تسجيله عام 1932 في القاهرة.
ولكن مما يدعو للأسف على حد قول راسي: "بدا التأثير المباشر لعلماء علم الموسيقى المقارن على المفكرين المصريين محدودًا". وأضاف راسي: "...التسجيلات الميدانية للمؤتمر...تبدو أكثر إثارة للاهتمام بكثير لأمناء المحفوظات والباحثين الغربيين مقارنة بالعلماء النظريين العرب، ناهيك عن طلاب الموسيقى والموسيقيين المحترفين." ونأمل أن يتغير ذلك الوضع الآن مع إتاحة هذه التسجيلات عبر الإنترنت.
استمع إلى:
قائمة التشغيل من العراق: