"خريطة": نافذة على عالم الخطابات الملكية في أفغانستان القرن التاسع عشر

اقتبس هذه المقالة

عرض عام

ما هي "الخريطة"؟ ما هي عناصرها الرئيسية؟ وكيف كان يجري إرسالها؟

اتّخذ فن إرسال الخطابات أشكالًا متعددًة عبر العصور، من اللفافة الجلدية إلى الورقة العادية داخل مظروف. وتوجد وراء كل رسالة حكاية فريدة عن عملية إعدادها، تعكس الحقبة الزمنية ومكانة مُرسِل الرسالة ومستلمها. وتعدّ "الخريطة" نموذجًا لتلك الرسائل. حيث يشير المصطلح إلى نوعٍ من الرسائل التي كانت تُرسَل عادةً داخل كيسٍ قماشيٍ مُفصّل بدقة وعناية، وهو شكلٌ اتخذته المراسلات الرسمية للحكام المسلمين على مر عدة قرون. فإلى جانب معناها المتداول كرسمٍ بياني يُستَدَل به، تحتمل كلمة "خريطة" (وجمعها خرائط أو خُرط أو خريطات) معنىً آخر نجده في المعاجم العربية: "وعاءٌ أو كيس من جلد أو نحوه يُشدّ على ما فيه". ويتناول هذا المقال خريطة محددة ترد ضمن أوراق كرزون في مجموعة مكتب الهند إدارة الحكومة البريطانية التي كانت الحكومة في الهند ترفع إليها تقاريرها بين عامي ١٨٥٨ و١٩٤٧، حيث خلِفت مجلس إدارة شركة الهند الشرقية. والأوراق الخاصة بالمكتبة البريطانية، وقد رُقمِنَت وصارت متاحة على مكتبة قطر الرقمية.

هذه الخريطة عبارة عن خطاب رسمي من أمير أفغانستان، عبد الرحمن خان بركزائي (حكم من ١٨٨٠ إلى ١٩٠١م)، إلى اللورد جورج ناثانيال كرزون، نائب الملك في الهند (في المنصب من ١٨٩٩ إلى ١٩٠٥م). تتألف الخريطة من رسالة رسمية مزخرفة تقع في ثلاث صفحات، ومظروفٍ ورقي، وكيسٍ من الحرير، وكيسٍ شبكي من القطن. لن يتناول هذا المقال محتوى الرسالة، وإنما سيتفحص تلك المواد التي تألفت منها الخريطة ويصف الطريقة التي جُمعت بها لتشكل قطعة من الفن الملكي من أواخر القرن التاسع عشر.

الرسالة المكوّنة من ثلاث صفحات. Mss Eur F111/361, ff 2-5، ص. ٢ وص. ٣ وص. ٤
الرسالة المكوّنة من ثلاث صفحات. Mss Eur F111/361, ff 2-5، ص. ٢ وص. ٣ وص. ٤

الورق

كُتبت الرسالة باللغة الفارسية على أوراقٍ كبيرة الحجم تحمل علامة مائية. ومن الأرجح أن هذه الأوراق ابتيعت عبر شركة الهند الشرقية مؤسسة بريطانية كانت تدير المصالح التجارية والعسكرية في الهند وجنوب غرب آسيا ومن ثمّ حُفظت مع القرطاسية في "دار الإنشاء" التابع لقصر الأمير عبد الرحمن. وبإمعان النظر في العلامة المائية يتّضح أنها عبارة عن إطار دائري حول صورة أسد يرفع راية عليها شعار "الثقة". وعلى يسار الصورة نجد عبارة "ج. د. وشركاه المحدودة."، وعن يمينها عبارة "كروكسلي/رقم ٦٩٣." يشير ذلك إلى أن الورق وُرِّد من "جون ديكينسون"، وهي شركة مقرها لندن كانت تتاجر في القرطاسية في القرن التاسع عشر، وأنه طُبِع في مطبعة "كروكسلي" (رقم ٦٩٣) التابعة للشركة.

العلامة المائية التي تحمل شعار الأسد الخاص بشركة جون ديكينسون وشركاه المحدودة. Mss Eur F111/361, ff 2-5، ص. ٤و
العلامة المائية التي تحمل شعار الأسد الخاص بشركة جون ديكينسون وشركاه المحدودة. Mss Eur F111/361, ff 2-5، ص. ٤و

تجهيز الصفحة الأولى: التقسيم والزخرفة والتسطير والكتابة

يدل تصميم الصفحة الأولى على أنها ذات أهمية خاصة. حيث قُسمت إلى ثلاثة أجزاء: الجزء العلوي بزخارف زهورية، والوسط حيث النص الرئيسي، والهامش الأيمن. والتفسير لهذا التقسيم يرجع إلى أبعاد الورقة، فحجم الورقة (٦٠٥×٤١٥مم) أكبر من القالب المستخدم لرسم الزخارف الزهورية (١٤٠×٢٦٥مم)، لذا فقد اضطُر المُزخرِف أو الكاتب أو كلاهما لتقسيم الصفحة الأولى لتستوعب قالب الزخرفة بما يتناسب مع أبعاد الورقة.

وبما أن النص الرئيسي يأتي تحت الزخرفة مباشرة، فقد بقي للصفحة هامش على جهة اليمين. جرت العادة في مثل هذه الحالات أن يُملأ هذا الهامش إما بالكتابة أو بالزخرفة. غير أنه، في هذه الحالة، وظف الكاتب الهامش كمساحة إضافية للكتابة، فبعد أن انتهى من كتابة النص الرئيسي، أدار الكاتب الرسالة ١٨٠ درجة (دون أن يقلبها على وجهها) واستمر في الكتابة عليها بشكلٍ مائل. الغرض الوحيد من هذا الميل هو تلافي أن تكون الكتابة كلها في نفس الاتجاه، مما كان من شأنه أن يربك القارئ، لا سيما وأن اللغة الفارسية تُكتب من اليمين إلى اليسار. وقبل أن تبدأ عملية الكتابة، جرى تسطير الصفحة بخطوط مبهمة على طول النص الرئيسي والهامش كذلك.

الصفحة الأولى، تظهر عليها مراحل التقسيم والزخرفة والتسطير والكتابة. Mss Eur F111/361, ff 2-5، ص. ٢و
الصفحة الأولى، تظهر عليها مراحل التقسيم والزخرفة والتسطير والكتابة. Mss Eur F111/361, ff 2-5، ص. ٢و

تتألف الزخرفة من زهور مترابطة تحاكي في تكوينها شكل تاجٍ كامل يتوسط نصفين آخرين على الجانبين. يحيط هذه التيجان إطاران على شكل نصفي مربع، يحتوي الأول على زخارف هندسية، بينما يضم الآخر المزيد من الزخارف الزهورية. يدل هذا التكوين الزخرفي بإيحاءاته الملكية على هوية مُرسل الرسالة، الأمير عبد الرحمن. مع اكتمال رسم القالب الزخرفي، يأتي دور التذهيب والتلوين. جرت العادة أن يُستخدم ورق الذهب للتذهيب، أما المواد المستخدمة لاستخراج الألوان فكانت تتراوح من الحناء والزعفران والرمان والأرز إلى الأحجار الكريمة. وفي حين أن ورق الذهب المستخدم في الخريطة الحالية واضح للعين، يصعُب تمييز المواد الأخرى المستخدمة في تكوين الألوان التي يمكننا حصرها كما يلي: أخضر داكن، درجة فاتحة من الأسود، درجتان من اللون الزهري، أبيض عاجي، أزرق مائل للأرجواني، درجة فاتحة من الأحمر. أسفل الإطار المزخرف، كُتبت عبارة "يا هو" بخطٍ منمّق. وعلى الرغم من وجود العبارة تحت الزخرفة وليس داخلها، فإنها تعد جزءًا من الزخرفة ذاتها. توازي العبارة في مدلولها تعبير "يا الله"، وقد تكون إشارة إلى التوكل على الله من المُزخرِف أو الكاتب أو كليهما قبل الشروع في العمل.

الزخرفة على الصفحة الأولى. Mss Eur F111/361, ff 2-5، ص. ٢و
الزخرفة على الصفحة الأولى. Mss Eur F111/361, ff 2-5، ص. ٢و

الصفحتان الثانية والثالثة

تحتوي الصفحتان الثانية والثالثة على قدرٍ يسير من الزخرفة. فكلٌ من الصفحتين محاطٌ بإطارٍ ذهبي مع زخارف بسيطة من الزهور في الأعلى، وقد جرى تخطيط الصفحتين بسطورٍ مبهمة للكتابة. وبعد أن انتهى الكاتب من كتابة النص، أضاف التاريخ: رمضان ١٣١٦هـ/ يناير ١٨٩٩م، ومن ثمّ ذيّل الأمير النص الرئيسي بختمه وتوقيعه على يسار الصفحة. تجدر الإشارة إلى احتمال أن تكون الزخرفة والكتابة عملًا جماعيًا شارك فيه عددٌ من الرسامين والخطاطين، وإن كان يتعذر علينا تحديد عدد من شاركوا في إنتاج هذه التحفة الفنية.

جانب تفصيلي يبرز الإطار المذهب والزخارف البسيطة من الزهور وختم الأمير وتوقيعه. Mss Eur F111/361, ff 2-5، ص. ٤و
جانب تفصيلي يبرز الإطار المذهب والزخارف البسيطة من الزهور وختم الأمير وتوقيعه. Mss Eur F111/361, ff 2-5، ص. ٤و
المظروف الورقي، يظهر عليه اسم المُرسِل والمُرسَل إليه وتاريخ الإرسال. Mss Eur F111/361, ff 2-5، ص. ٥و
المظروف الورقي، يظهر عليه اسم المُرسِل والمُرسَل إليه وتاريخ الإرسال. Mss Eur F111/361, ff 2-5، ص. ٥و

الكيسان

طُويت الرسالة بصفحاتها الثلاث وأودعت مظروفًا مفتوحًا من الأعلى. وبعد ختمه بالشمع، وُضع المظروف في كيسٍ حريري، ثم وضع ذلك الكيس بدوره داخل كيسٍ شبكي من القطن. تشير أبعاد الكيسين إلى أن الكيس القطني استُخدم كغلافٍ خارجي لحفظ الكيس الحريري.

نُسج الكيس الحريري من حريرٍ برتقالي اللون مع نسيجٍ مبردي مضلّع، تتخذ عروقه شكل متوازي الأضلاع وتتخلله خيوطٌ فضية بعضها مجدول والبعض الآخر في هيئة شرائط. خيطت حافتان من حواف الكيس باليد على طول ضلعٍ قصير وضلعٍ طويل، بينما فتحة الكيس محفوفة بنسيجٍ ساتاني من حرير زمردي أخضر مبطن بقماش مخطط ("عتابي") مفتوح النسيج من القطن الوردي الزاهي. أما الكيس القطني فهو عبارة عن شبكة ثنائية الجدل ذات لون طبيعي، حيكت حافتاها باليد، إحداهما قصيرة والأخرى طويلة. ويشير شق واضح في الوسط إلى أن الكيسين كانا مطويين من المنتصف.

صورة مكبّرة للخيوط الفضية "المجدولة" التي تتخلل باطن النسيج الحريري. Mss Eur F111/361، أمامي‎
صورة مكبّرة للخيوط الفضية "المجدولة" التي تتخلل باطن النسيج الحريري. Mss Eur F111/361، أمامي‎
تفصيل صورة مكبّرة لنسيج ثنائي الجدل للشبكة القطنية. Mss Eur F111/361، ا-و
تفصيل صورة مكبّرة لنسيج ثنائي الجدل للشبكة القطنية. Mss Eur F111/361، ا-و

بوضع الرسالة داخل المظروف، والمظروف داخل الكيس الحريري، والكيس الحريري داخل الكيس القطني، كانت الخريطة أخيرًا جاهزةً للإرسال.

الرسالة، والمظروف الورقي (ص. ٥)، والكيس الحريري، والكيس الشبكي من القطن. Mss Eur F111/361، صص. ٢-٥
الرسالة، والمظروف الورقي (ص. ٥)، والكيس الحريري، والكيس الشبكي من القطن. Mss Eur F111/361، صص. ٢-٥

من السياسة إلى الفن

بالنظر إلى تعريف كلمة "خريطة" في المعجم، قد يتهيأ لنا أن المصطلح يمكن أن يُستخدم للإشارة إلى الكيسين فقط، أو حتى إلى الكيس الحريري وحده. ولكن لو أُرسل الكيس بمفرده لما كان له من أهميةٍ تذكر. ولذلك، فالافتراض المنطقي هو أن مصطلح "خريطة" يشير إلى كل المواد مجتمعة، أي الرسالة بصفحاتها الثلاث والمظروف والكيسين.

تتيح لنا هذه الدراسة لعناصر الخريطة أن ننتقل من مجرد تناول الخريطة كنمط من المراسلات بين قوتين سياسيتين إلى التركيز على الجهود والمهارات الكامنة وراء إعدادها، ابتداءً من شراء الورق وحتى إرسال الخطاب، وذلك من خلال تأمل العناصر المتفرقة التي جعلت من الخريطة تحفةً فريدةً من الفن الملكي الأفغاني من القرن التاسع عشر.

 

مراجع إضافية

Ula Zeir, ‘Kharita: the royal art of letter dispatching’, Afghanistan, 2.1 (2019), 141-152