عرض عام
بين القرن الثامن والعاشر، تُرجمت تقريبًا كل النصوص العلمية والفلسفية اليونانية المتاحة في ذلك الوقت إلى اللغة العربية، وتواصلت جهود الترجمة على مدى القرون التالية. وكان المترجمون الذين تولوا هذه الأعمال لا ينتمون إلى مجتمع واحد، وإنما كانوا ينتمون للعديد من الأصول العرقية والدينية. وكان المترجمون البارزون مسلمين، مثل الحجاج بن يوسف بن مطر (٧٨٦-٨٣٠ ميلادية) والعباس بن سعيد الجوهري (توفي بعد ٨٤٣)، وحتى عبَدة الكواكب الصابئون مثل ثابت بن قرّة الحراني (توفي في ٩٠١). وقد شكلوا المسيحيون الشريحة الأكبر بين هؤلاء المترجمين، فما السبب في ذلك؟
يبدو أن ذلك يرجع لأنواع التعليم التي كانت تتلقاها المجتمعات المسيحية المختلفة في العالم الإسلامي، وأيضًا بسبب الوضع الديني والسياسي الجديد الذي ساد عقب الغزوات العربية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إبّان القرن السابع.
المجتمعات الناطقة بالسريانية
السريانية هي إحدى اللغات المُشتقة من الآرامية، وهي لغة سامية قديمة أصلية للمنطقة المحيطة بمدينة إديسا (وهي الآن أورفة في جنوب تركيا)، والتي كانت مركزاً رئيسيًا للمسيحية خلال القرون التي سبقت الغزوات العربية. وكان عدد كبير من المسيحيين في الإمبراطورية البيزنطية في الشرق الأدنى يتحدثون اللغة السريانية ويستخدمونها في صلواتهم وطقوس عباداتهم في الكنائس.
تلقى المسيحيون في هذه المجتمعات الناطقة للسريانية تعليمهم في مدارس رهبان، حيث كانوا يدرسون باللغة السريانية، كما تعلموا اليونانية أيضًا، وهي اللغة الأصلية للعهد الجديد. علاوة على ذلك، هناك أدلة قوية على أن العديد من المدارس المتقدمة في هذه المجتمعات السريانية المسيحية قد درّست الكتب القديمة في مجالي العلوم والفلسفة باللغة اليونانية، وتمت ترجمة العديد من هذه الكتب إلى السريانية.
حنين بن إسحق، مترجم عربي مسيحي
ويعد حنين بن إسحق (٨٠٩-٨٧٣ ميلادية) أهم وأشهر المترجمين المسيحيين وكان يجيد السريانية . كان حنين عربي مسيحي نسطوري، وعلى الأرجح كان يتحدث العربية كلغة الأم التابعة له. تلقى تعليمه باللغة السريانية منذ طفولته، وتحدث مع أصدقائه المسيحيين بهذه اللغة وتعلم اللغة اليونانية القديمة وأتقنها بدرجة كبيرة.
فضلاً عن ذلك، كان حنين واحدًا من أعظم الأطباء في عصره، وقد وضع ترتيبًا منهجيًا لكتابات الأطباء اليونانيين، كما كتب مؤلفات خاصة به وبرع في طب العيون. وقد بلغت شهرته كطبيب ذروتها إلى أن أصبح طبيبًا في بلاط الخليفة المتوكل (حكم من ٨٤٧-٨٦١ ميلادية). ومن أعظم أعمال حنين ترجمته لجميع الكتابات المتاحة للأطباء اليونانيين البارزين، وهما أبقراط (القرن الخامس قبل الميلاد تقريبًا) وجالينوس (١٢٩-٢١٦ ميلادية تقريبًا)، وترجمها إلى السريانية والعربية.
وذلك أمر لا يستهان به إذ إن كتابات جالينوس تمثل جزءًا كبيرًا من الآداب اليونانية القديمة الباقية حتى وقتنا هذا. كان جالينوس أحد أبرز الكُتّاب في العالم وأكثرهم إنتاجًا، حيث تمثل كتاباته حوالي عشرة بالمائة من جميع الكتب اليونانية القديمة الباقية في عصرنا الحالي.
فرص جديدة لنقل المعرفة
وكانت معرفة حنين وأمثاله للآداب اليونانية القديمة وإتقانهم اللغة السامية ما جعلهم مؤهلين تمامًا للترجمة من اليونانية إلى العربية. في عصر الإمبراطورية الرومانية، كانت العديد من المجموعات المسيحية السريانية قد انخرطت في خلافات دينية، ولكن مع بداية الحكم الإسلامي، لم تعد هذه المجموعات خاضعة لرقابة القسطنطينية أو مُرغمة على الالتزام بنظامها الأرثوذوكسية. وكان ذلك يعني أن المجتمعات التي كانت منفصلةً عن بعضها البعض حتى ذلك الحين تمكنت من العمل سوياً في حرية.